فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والبطَر: التكبر.
وفعله قاصر من باب فَرِح، فانتصاب {معيشتها} بعد {بطرت} على تضمين {بطرت} معنى كفرت لأن البَطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما يُسدى إليه من الخير.
والمراد: بطِرت حالة معيشتها، أي نعمة عيشها.
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله: {بطرت} وهي حالة الأمن والرزق.
والإشارة بتلك إلى {مساكنهم} الذي بيّن به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن.
وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزَّل منزلة الحاضر بمرأى السامع، ولذلك فقوله: {لم تُسكن من بعدهم} خبر عن اسم الإشارة والتقدير: فمساكنهم لم تُسكَن من بعدهم إلا قليلًا.
والسكنى: الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمنًا طويلًا.
ومعنى {لم تُسكْن من بعدهم} لم يتركوا فيها خلفًا لهم.
وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم.
وقوله: {إلا قليلًا} احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها.
وانتصب {قليلًا} على الاستثناء من عموم أزمان محذوفةٍ.
والتقدير: إلا زمانًا قليلًا، أو على الاستثناء من مصدر محذوف.
والتقدير: لم تسكن سكنًا إلاّ سكنًا قليلًا، والسَّكْن القليل: هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى.
فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجعين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة.
والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا.
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مرّ في طريقه إلى تبوك بحجْر ثمود فقال: «لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين» أي خائفين أي اقتصارًا على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقًا لقدره.
وجملة {وكنا نحن الوارثين} عطف على جملة {لم تُسكن من بعدهم} وهو يفيد أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحلُّ فيها قوم آخرون بعدهم فعُبِّر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة.
وقصْر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي، أي لا يرثها غيرنا.
وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن.
وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكن لأن بهجة المساكن سكانها، فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا}.
أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه، استقصاء للإعذار لمشركي العرب، فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعدادًا لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك.
و{القرى} هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية، وتقدم عند قوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} في [البقرة: 58].
وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى.
وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلًا ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العادة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم} في سورة [آل عمران: 79] وقوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله} في سورة يونس (37).
وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين.
وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزوارًا لمكان الكعبة فيها والحج لها.
والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها.
وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثرًا في القرى.
وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبيء عليه السلام لهذا المقصد.
ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله: {ءاياتنا} للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله.
وضمير {عليهم} عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله: {واسأل القرية التي كنا فيها} [يوسف: 82]، ومنه قوله: {فليدع ناديه} [العلق: 17].
وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم.
ثم بين السبب بقوله: {وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون} أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة إلا في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك، فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه، فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول.
وجملة {وأهلها ظالمون} في موضع الحال، وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ، أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يهدي من أحب هدايته، ولكنه جل وعلا هو الذي يهدي من يشاء هداه، وهو أعلم بالمهتدين.
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية جاء موضحًا في آيات كثيرة كقوله تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} [النحل: 37] الآية. وقوله: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئًا أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة: 41] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقوله: {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} جاء معناه موضحًا في آيات كثيرة كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى} [النجم: 30] وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} [الأنعام: 117] والآيات بمثل ذلك كثيرة، وقد أوضحنا سابقًا أن الهدى المنفى عنه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى هنا: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} هو هدى التوفيق، لأن التوفيق بيد الله وحده، وأن الهدى المثبت له صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] هو هدى الدلالة على الحق والإرشاد إليه، ونزول قوله تعالى: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} في أبي طالب مشهرو معروف. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
هذا خطاب لسيدنا رسول الله، خاصٌّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلَّ على دين قومه، ولكنه كان يحمي رسول الله حماية عصبية قربى وأهل، لا محبة في الإسلام، ولله تعالى حكمة في أنْ يظلَّ أبو طالب على الكفر؛ لأنه بذلك كسب قريشًا ونال احترامهم، حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد وعدم مجاملته له، وأعجبهم أن يظل على دين الآباء، فاحترموا حمايته لابن أخيه، وهذا منع عن رسول الله إيذاءهم، وحمى الدعوة من كثير من الاعتداءات عليها.
لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصًا على أنْ يردَّ له هذا الجميل، وردُّ رسول الله للجميل لا يكون بعرَض من الدنيا، إنما بشيء باقٍ خالد، فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا عم، قُلْ لا إله إلا الله كلمة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة» فقال: يا ابن أخي، لولا أن قريشًا تُعيِّرني بهذه الواقعة، ويقولون ما آمن إلا جزعًا من الموت لأقررت عينك بها.
لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب، جاء العباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: يا محمد، إن الكلمة التي طلبتَ من عمِّك أنْ يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها.
ونلاحظ هنا دقة الأداء من العباس، حيث لم يقُلْ: إن هذه الكلمة لا إله إلا الله، بل سماها الكلمة لماذا؟ لأنه لم يكن قد أسلم بعد.
وسبق أنْ تكلَّمنا في معنى الهداية {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وقلنا: إنها تأتي بأحد معنيين: بمعنى الإرشاد والدلالة، وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدلالة، ومن ذلك قوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] أي: سمعوا الدلالة وأطاعوها، فزادهم الله هداية أخرى، هي هداية الإيمان والمعونة.
يقول تعالى في هذه المسألة: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] يعني: دللناهم {فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17]؛ لذلك حُرموا هداية المعونة.
إذن: الهداية المنفية عن سيدنا رسول الله {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] هي هداية المعونة والتوفيق للإيمان؛ لأنه صلى الله عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والإرشاد، وكان مما قال: {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].
فهداية الدلالة صدرت أولًا عن الله تعالى، ثم بالبلاغ من رسوله صلى الله عليه وسلم ثانيًا.
ثم يقول الحق سبحانه: {وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ}.
وهذه المقولة {إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ} [القصص: 57] قالها الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، فقد ذهب إلى سيدنا رسول الله، وقال: إننا نعلم أنك جئتَ بالحق، ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا، ولابد أنه كان يتكلم بلسان قومه الذين ائتمروا على هذا القول.
والخطْف: هو الأخْذ بشدة وسرعة.
إذن: فهم يُقرُّون للرسول بأنه جاء بالحق، وأنه على الهدى، لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا، وكان عليهم أنْ يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول الله على الحق وعلى الهدى ويُتخطَّفوا وبين أنْ يظلُّوا على كفرهم.
فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول الله أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم- على فرض أن هذا صحيح- قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ به مدة بقائك فيها، وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر، ولا يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الآخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم، خير يناسب قدرة المنعم سبحانه.
أما إنْ ظلُّوا على كفرهم، فمتاع قليل في الدنيا الفانية، ولا نصيبَ لهم في الآخرة الباقية. إذن: فأيُّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول الله، هذه واحدة.
ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول الله تُتخطَّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد الله عليهم: قُلْ لهم يا محمد: كذبتم، فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلامكم {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].